الفقير والوزير
كان أحد الرجال فقيراً معدماً، وكان ذا عيال كثير، يعمل من الصباح إلى المساء، عتالاً يسوق حماره، يحمل عليه للناس أشياءهم، كي يفوز بقليل من الدراهم، يشتري بها لعياله الخبز والإدام، وكان في كثير من الأيام لا يحصّل غير ثمن الشعير للحمار، ويعود إلى البيت، ليمضي الليل مع العيال، غرثى جائعين.
وذات يوم فتح الله عليه برزق كثير، فاشترى لأهله ألواناً من الطعام، وملأ كيس الحمار بالشعير، وقصد بيته، وبينما هو في بعض الطريق عرضت له حاجة، فانتحى جانباً، تاركاً الحمار، ثم قضاها.
ولما رجع لم يجد الحمار، فتلفت يبحث عنه، فلم ير له أثراً، فأخذ يفتش عنه، فطاف في الأزقة، ودار في الحارات، وهو ينادي، ويسأل عنه، حتى تورمت قدماه، ولكن في غير جدوى، فما كان منه إلا أن حدج السماء بنظرة شزراء، ثم صاح في غضب:
- يارب، كل الأيام لا أرزق إلا بالقليل، ويوم رزقت بالكثير ضاع الحمار؟!..
ومضى إلى الملك، مغاضباً، يريد أن يشكو الله إليه، فمنعه الحرس من الدخول، فأخذ يصرح ويصيح، حتى سمع الملك الصوت، فأطل من نافذة القصر، فرأى ذلك البائس الفقير، فأشار إلى الحرس أن اسمحوا له بالدخول، فدخل، والغضب بادٍ عليه، ليعلن أنه يريد رفع شكوى ضد الله، فضحك الملك طويلاً، وطيّب خاطره، ثم سمع حكايته، فأمر له بعطاء جزيل، فخرج فرحاً به مسروراً.
وكان الوزير إلى جانب الملك، يسمع ويرى، فحزّ في نفسه أن يحظى هذا الفقير، بذاك العطاء، فمال على الملك، وأوغر صدره عليه، موحياً إليه أنه ليس إلا محتالاً، اختلق تلك القصة، ليظفر بالمال، ثم طلب من الملك أن يرسل وراءه، فإن لديه سؤالاً يريد أن يمتحنه به، ليكشف احتياله، فأرسل الملك الجند وراء الفقير، فأحضروه، فدخل مذعوراً، فأخبره الملك أن الوزير يريد أن يسأله سؤالاً، إن عرف الجواب، أجزل له العطاء، وإن لم يعرف، قطع رأسه.
فاضطرب الفقير واغتم، ولكنه امتثل، وأعلن استعداده، لسماع السؤال، وعندئذٍ سأله الوزير: "أين أول الدنيا؟ وأين آخرها؟"، فأجابه على الفور: "عند أقدام الملك، أولها وآخرها". فسر الملك بالجواب، ونظر إلى الوزير، فإذا هو صامت لا يريم، فأمر للفقير بعطاء كبير، فأخذه الفقير وخرج فرحاً، والوزير يتميز من الغيظ.
ولكن لم يلبث الوزير أن مال على الملك، وأكد أن ذلك الفقير محتال، ثم طلب منه أن يرسل وراءه، فإن لديه سؤالاً آخر يريد أن يمتحنه به، فأرسل الملك الجند وراءه، فأحضروه، فدخل، وقد أدرك أن الوزير هو الذي يكيد له، ويؤلب الملك عليه، ولما عرض عليه الملك الشرط، أن يعرف الجواب، أو يقطع رأسه، أعلن القبول، فليس له في الأمر حيلة.
وعندئذٍ سأله الوزير:"في أي جهة وجه الله؟"،فأطرق الفقير قليلاً، ثم طلب من الملك أن يأمر الخدم كي يحضروا له شمعة، فلما أحضرت أشعلها، ووضعها أمام الملك، ثم سأله:"أين وجه هذه الشمعة؟". فأجاب الملك: "في كل الجهات"، فالتفت الفقير إلى الوزير، وأجابه: "وكذلك وجه الله، فهو في كل الجهات". فأعجب الملك بجوابه أي إعجاب، وأجزل له العطاء، فأخذه وخرج، مزهواً بنصره، فرحاً بالعطاء، والوزير في ضيق شديد، وغضب كبير.
ولكن لم يلبث الوزير أن حزم أمره، ومال على الملك، وطلب منه أن يأمر بإحضار الفقير، فإن لديه سؤالاً أخيراً، يريد أن يمتحنه به، فأجاب الملك طلب وزيره، وأرسل وراء الفقير، فأدخله الجند، وهو في قلق كبير، فقد أيقن أنه هذه المرة أمام امتحان قد يخسر فيه حياته، ولكنه ملك نفسه، وصمم على تحدي الوزير، ولما أعاد عليه الملك الشرط، أكد بحزم قبوله، واستعداده لسماع السؤال.
وعندئذٍ تحرك الوزير، وزها بنفسه، ثم ألقى سؤاله: "ماهو عمل الله؟". فتبسم الفقير، والتفت إلى الملك يسأله أن يعطيه الأمان، فأعطاه الأمان، فطلب منه أن يأمر الوزير بخلع ثيابه، فأمر الملك وزيره بذلك، فدهش الوزير، وارتبك، وراوغ، يحاول التملص، ولكن الملك أشار عليه أن أفعل، ففعل، وعندئذٍ خلع الفقير ثيابه، وألقاها على الوزير، ثم طلب من الملك أن يأمر الوزير بارتداء ثيابه، هو الفقير، فأمر الملك الوزير أن يرتدي ثياب الفقير، فتردد الوزير واضطرب، ثم تبسم، واصطنع المزاح، ولكن الملك نظر إليه يحذره، فلم يجد بداً من الانصياع، فلبس ثياب الفقير، وعندئذٍ لبس الفقير ثياب الوزير، ثم التفت إلى الملك يسأله أن يأمره وزيره بالنزول عن كرسيه، فأمره الملك أن ينزل عن الكرسي، فارتبك، وحار في أمره، ولكن الملك عاجله أن افعل، فنزل، وعندئذٍ ارتقى الفقير إلى جانب الملك، وقعد على كرسي الوزير، ثم التفت إلى الوزير، وقال له: "انظر، هذا هو جواب سؤالك، إن عمل الله أن يرفع أناساً، وأن يضع آخرين".
فأعجب الملك بذكاء الفقير، وقال له: "لقد ثبتناك فيما أنت فيه، فأنت منذ اليوم وزيري"، فبهت الوزير، وصعق، وقبل أن ينطق بشيء، أمر الملك الجند أن يسوقوه إلى السجن، ثم التفت إلى الفقير، وقد غدا وزيره، يهنئه، ويبارك له، وقد أدرك أن في شعبه من هو أذكى من ذلك الوزير المحتال، وأجدر بالوزارة منه.
تعليق:
تؤكد الحكاية أن ثمة تفاوتاً كبيراً في الحظوظ بين الناس، فهذا وزير وذاك فقير، وليس مرجع ذلك إلى ذكاء أو غباء، وإنما مرجعه إلى مشيئة الله عز وجل، فربّ ذكي فقير، ورب وزير ليس بالقدر نفسه من الذكاء.
وتؤكد الحكاية أن على المرء أن يسعى ويعمل، ولا يستسلم لما هو فيه، بدعوى أنه قدره، إذ إن انتقاله إلى وضع آخر أفضل هو قدره أيضاً.
والبنية الثلاثية واضحة في الحكاية، وتتمثل في الأسئلة الثلاثة التي يطرحها الوزير، وفي هذه الأسئلة قدر غير قليل من الألغاز ، وهي تعلم الناشئة، وتنبه تفكيرهم، وتدربّهم على حسن الإجابة.
وإذا كان الفقير قد أضاع في بداية الحكاية حماره، فقد تولى الوزارة في نهاية الحكاية، مما يدل على قيام العدل، ومثل هذه النهاية تدل على عمقها وبصورة غير مباشرة على أن الأجدر بأمور الحكم هو الأذكى، ولكن ذلك نادراً مايتحقق، وبذلك تحمل الحكاية في داخلها نقمة خفيّة.