حماة من خشب
يحكى أن شاباً عزباً أنهى دراسته القانون، وتسلّم منصب القضاء، في بلدة بعيدة عن بلدته، وكان تعيينه في القضاء الشرعي، فكان يقعد للنظر في دعاوى الزوجات وشكاواهن على أزواجهن، وفي كل يوم تأتيه النسوة، يشكون له حماواتهن، وسوء معاملتهن، ومايكون بهن من خرف، ومن تدخل في شؤون المنزل، ومن مضايقة ومعاندة، فيحكم للزوجات على الأزواج.
ولكنه لاحظ بعد حين أن أكثر أسباب الدعاوى التي تقدمها النساء على أزواجهن، هي الحماوات، فشك في الأمر، وقال:"لا يخلوالأمر من مبالغة"، فأخذ يتروّى في حكمه ويتريث، خشية أن يكون في رأيه شيء من الجور، وهو شاب عزب، قليل الخبرة في أمور الزوجات والحماوات، ولذلك قرر أن يجرب الأمر بنفسه، حتى يكون حكمه عن بيّنة.
وكان يتيم الأبوين، وحيداً في البلدة، لا أحد له فيها، سوى من تعرّف إليهم من الأصحاب، فطلب من هؤلاء المساعدة على الخطبة والزواج، وماهي إلا أيام حتى اهتدى إلى فتاة توسّم فيها الخير والصلاح، فقرر خطبتها، وقعد إلى والدها يحدثه، فأخبره أن له أماً عجوزاً، قد أسكنها في غرفة، خاصة في داره، وأنها لا تغادر غرفتها ألبته، فهي قعيدة، تظل أبداً أمام النافذة، تصلّي لله، وتسبّحه، وأنّه لا يكلّف زوجته من أمرها شيئاً، فهو يتكفّل أمر إطعامها حين يعود إلى البيت، ووافق الوالد على الخطبة، وعقد القران ثم صار الزفاف.
وكان الشاب قد أوصى أحد النجارين أن يصنع له دمية من خشب، على هيئة امرأة عجوز، وأن يجعل رأسها على نابض، يتيح له الحركة المستمرة، وقد حمل هذه الدمية، ووضعها في غرفة خاصة، في داره، وجعلها تجاه النافذة، ثم وضع على رأسها ملاءة بيضاء، وجعلها في هيئة من يصلي لله، ويسبّح.
وبعد انتهاء أيام الزواج الأولى، وفي صباح يوم، قال لزوجته، قبل أن يخرج إلى عمله: هذه هي أمي، ترينها من وراء زجاج النافذة، لا تخرج إليك، ولا تذهبين إليها، وأنا أتكفّل بها حين أرجع"، فقالت له زوجته:"لا تقلق، إن أمّك مثل أمي، بل هي أغلى عندي، وإني أخدمها بعيوني "فشكر لها عواطفها، ثم تركها، وخرج.
ولما عاد في المساء، سأل زوجته عن أمه، فأجابته: "لقد سررت بها السرور كله، فوجهها يفيض تقوى وورعاً، وبركاتها تحل على الدار،وكم أتمنى لو تنزل إلي للتسلي معي"، فقال لها الزوج: "لا، دعيها لصلاتها وعبادتها"، ثم استأذنها، ومضى إلى أمه، فأمضى عندها بعض الوقت، ثم خرج.
وكان هذا دأبه، يوصي زوجته بأمه كل يوم، قبل أن يخرج، ويسألها عنها حين يعود، وكانت زوجته تمدح أمه، وتثني عليها، ولكنها شيئاً فشيئاً أخذت تضيق بها، وتتذمر، وتبدي عجبها من طول مكثها أمام النافذة، وعدم مغادرتها لموضعها، كما أنها ضاقت برأسها الذي ماتنفك تهزّه، لا تفتر ولا تتعب، وكان زوجها يجيبها بما يقنعها، فتصمت مكرهة.
وذات يوم كان الطعام الذي أعدته زوجته كثير الملح، بشكل لا يطاق، فعاتبها في ذلك، فقالت له: "لا تعاتبني، ولكن عاتب أمك، فقد نزلت هذا اليوم من غرفتها، وتدخّلت في أمر الطبخ، وهي التي وضعت الملح في الطعام، وقد قلت لها إنك لاتحب الملح الكثير في الطعام، ولكنها رفضت إلا أن تضع الملح هي بنفسها". وماكان من الزوج إلا أن وارى امتعاضه وصمت.
وفي يوم آخر، رجع إلى البيت، فوجدها لم تنته من الغسيل الذي كانت قد بدأت به قبل خروجه في الصباح، فعاتبها في ذلك، فقالت له: "إن أمك قد نزلت هذا اليوم أيضاً، وأخذت تتدخل في كل شيء، تطلب مني أن أغسل كل قطعة مرتين وثلاثاً، فتأخرت في الغسيل، وماكان من الزوج إلا أن وارى غضبه، وصمت أيضاً.
وهكذا أخذت الزوجة، كلما أخطأت في شيء، أو قصرت، تلقي السبب في ذلك على حماتها، وكانت في كل مرة ترتاح إلى ذلك وتفرح، إذ تظن أن زوجها قد صدّق ادعاءها، وأنها نجت من اللوم والعتاب، وتظن أنه يدخل على أمه فيلومها ويعاتبها.
وكانت في كل مرة تعمد إلى الكيد لحماتها، فتشير إليها بيديها ورأسها إشارات تقلدها فيها، وتريد إغاظتها، ولكنها كانت تزداد هي نفسها غضباً وغيظاً، حين ترى حماتها لا تغضب، ولا تكف عن هز رأسها، في ثبات واستقرار.
وذات يوم رجع الزوج إلى البيت، فرأى زوجته تبكي، وتلطم وجهها، فسألها عن أمرها، فانفجرت صائحة بغضب: "أمك، أمك، انظر إليها، إنها تكيد لي، وتغيظني بهز رأسها". وحاول الزوج تهدئتها، ولكنه لم يفلح، وأصرت على الذهاب إلى أهلها، لتشكو الأمر إلى أبيها.
وماكان من الزوج إلا أن استجاب إلى طلب زوجته، فأخذها إلى أهلها، فروت لأبيها ماتعانيه من مضايقة حماتها وكيدها، وحاول الزوج الدفاع عن أمه، وتأكيد صلاحها وتقواها، وأنها لا تغادر سجادة صلاتها، ولكن الأب لم يستجب لقوله، وغضب لابنته، غضباً شديداً، ثم قال له:"إن أمك تغيظ ابنتي، وتكيد لها، وأنا لن أردها إليك إلا إذا خرجت أمك إلى بيت خاص، بعيد عن بيت ابنتي". وأخذت الزوجة تبكي وتندب، وتبالغ في الأمور، حتى إنها قالت لأبيها:"ولا أخفي عنك يا أبي أن حماتي قد أقدمت على ضربي وشدّ شعري، وتمزيق ثيابي، وهذه آثار أظافرها في جسمي". وهنا أظهر الزوج غضباً شديداً، وفزع لزوجته، وهب واقفاً، ثم قال: "والله ماكنت أعرف بمثل هذا من قبل، وأنا لا أقبل به من أمي، وأنا ذاهب الآن لقتلها والخلاص منها" ، وفتح الباب وخرج.
ولحقت به زوجته، ووالدها، فأدركاه، وهو يحمل عصاً غليظة، ويهم بالدخول بها على أمه، فتوسلوا إليه ألا يفعل، وذكّراه بأنها أمه، وأنه قاضٍ يعرف الحلال والحرام، ولكنه بالغ في إظهار غضبه، واندفع داخلاً على أمه، فدخلا وراءه، وهوى بالعصا الغليظة على الدمية، فطار الرأس، ونفر النابض، وسقطت الملاءة، وبان الخشب.
ثم مضى بعد ذلك إلى المحكمة وأصدر حكماً بطلاق زوجته، بصفته قاضياً، ثم أعلن استقالته ، وتخليه عن القضاء، وندم على ما أصدر من قبل من أحكام، ظلم فيها أزواجاً كثيرين، حين صدق شكاوى زوجاتهم من حماواتهن.
تعليق:
حكاية طريفة، ذات بعد اجتماعي، لا تخلو من مبالغة، بقصد قوة الإقناع والتأثير.
وهي مبنية على العداء المستحكم بين الحماة وكنتها، بسبب رغبة الزوجة، دائماً في الاستقلال بعيشها وحياتها وسكنها، وتدخل الحماة دائماً في شؤون كنتها، ولاسيما حين تشاركها السكن.
وفي الحكاية قدر غير قليل من المبالغة، لتوضيح شخصية الكنة التي تضيق ذرعاً بحماتها، وتعميق ملامحها وترسيخها، والحكاية تميل إلى تحميل الكنة المسؤولية كلها، بل تبالغ فتجعلها أسيرة الوهم، كما تدفع بها إلى الكذب، كي تدينها.
وفكرة الدمية من خشب تمثل الحماة، فكرة طريفة جداً، وهي التي منحت الحكاية تميزها وخصوصيتها، وهي لا تخلو من ذكاء.
والحكاية موجهة على مايبدو للأزواج الشباب تحثهم على التنبه والروية واليقظة، وتضرب لهم مثلاً قوياً بشاب غرّ.
ويرجح أن تكون الحكاية من صنع حماة تأذّت من كنتها، وفاصطنعت ذلك المثل للكنة الكاذبة الواهمة المبالغة في تذمرها من حماة لا تؤذيها في شيء، وليست إلا دمية.
وثمة فكرة ثانوية تستفاد من الحكاية، وهي ضرورة خبرة الحياة وأهميتها حيث لاتنفع الدراسة وحدها، وقد بدا ذلك واضحاً في شخص القاضي الشاب.
ومهما يكن، فالحكاية تعكس واقعاً اجتماعياً متخلفاً، تشغله قضايا الحماة والكنة، وتستنفد طاقاته، وتمثل مشكلة كبيرة من مشكلاته.